الأمن والمجتمع

تشكل مسألة العلاقة بين المجتمع والأمن واحدة من الموضوعات الأساسية التي تستحوذ على اهتمام الباحثين في مجالي العلوم الاجتماعية والأمنية لما فيها من اشتراك وتمايز، أما ما هو مشترك بينهما فيجعل جهودهما متكاملة في جوانبها، مترابطة في وظائفها، فيدرك أصحاب كل مجال من المجالين أهمية الجانب الآخر، وغياب القدرة على فصل أي منهما عن الآخر، وقد دلت تطورات الأحداث والتغيرات الكبيرة التي يشهدها الواقع الأمني في معظم دول العالم أنه لا يمكن الفصل بين ما يحمله الناس من خصائص وقيم واتجاهات وبين الوضع الأمني الذي يعيشوه، وما يحمله هذا الواقع من مشكلات تترب على مظاهر الصراع والتنافس والبحث عن المنافع والسلطة والمال وغيرها من أسباب الصراع.. وعلى طرف آخر يدرك المختصون في المجالات الأمنية المختلفة، والعلوم الاجتماعية المتعددة أن انتشار عوامل الأمن من استقرار نفسي واجتماعي واطمئنان يعيشه الناس في حياتهم اليومية يسهم بدرجة كبيرة في تحقيق عملية التنمية، وتبادل المنافع بين السكان، ويجعل إسهامات الفرد كبيرة إلى الحد الذي تنشر فيه مظاهر الإبداع والتفوق، ويصبح أبناء المجتمع قادرين على تقديم الابتكارات المتجددة والحلول المستمرة لمشكلاتهم اليومية.
وإلى جانب ذلك تظهر بين الباحثين مجموعة من المشكلات العلمية والمنهجية التي تجعل اهتماماتهم مبعثرة، ومشتتة مع أنها من حيث النتيجة يجب أن تهدف إلى غاية واحدة تتمثل في تحسين الواقع الاجتماعي والأمني في المجتمع وتوفير عوامل الاستقرار النفسي والاجتماعي لكل أفراده من جهة، وتحقيق مستويات أفضل من التنمية الاجتماعية، وتتمثل أوجه الفروق بين الباحثين في العلوم الاجتماعية والعلوم الأمنية في مسألتين أساسيتين: الأولى في كيفية البحث في المشكلات المترتبة على الواقع الأمني السائد من جهة، وعلى مظاهر التخلف الاجتماعي من جهة ثانية، بينما تظهر المسألة الثانية في الأولويات التي يقدمها كل منهما، ففي حين يجد المعنيون بالأمور الأمنية في المجتمع أن أولويات العمل التنموي تأتي من الحاجة إلى الاستقرار، وأنه لا تنمية دون استقرار حقيقي في المجتمع، وأن الجهود الكبيرة التي تبذل في العمل التنموي الجبار يمكن أن تتعرض للخطر طالما أن العوامل المسببة له ممكنة الحدوث في المجتمع، ولهذا ينصح المعنيون بالمسألة الأمنية جعل مسألتهم في المقام الأول من اهتمامات متخذي القرارات في الدولة، وتساعدهم في ذلك رغبة الدولة المستمرة في تحقيق مظاهر الاستقرار والأمن في المجتمع لما له من أهمية على مستوى الأمن الوطني بصورة عامة، وعلى أمن الدولة بشكل خاص.
غير أن المعنيين بالمسألة الاجتماعية يأخذون بالنظر إلى المسألة من رؤية مختلفة نسبياً، فتحليل المشكلات الأمنية التي تنتشر في المجتمع وتسبب قدرا كبيراً من المشكلات النفسية والاجتماعية والاقتصادية التي يعاني منها المجتمع أفراداً وجماعات إنما هي من حيث النتيجة إلا نتائج لمشكلات أكثر عمقاً، ولمشكلات أكثر خطورة، وعندما تأخذ الدولة بمعالجة المشكلات الأمنية مباشرة، وتعطيها الأولوية مقارنة مع المشكلات الاجتماعية غير الأمنية فإنها تعمل من حيث لا تدري على تجديد مصادر الجريمة والمشكلات الأمنية، إذ تأخذ بمعالجة الأعراض دون الأسباب، وعلى قدر تركيزها على المسألة الأمنية لتحقيق الاستقرار في المجتمع دون الاهتمام بالمسألة الاجتماعية على قدر ما تعمل الدولة على تهيئة المجتمع لإنتاج المزيد من المشكلات الأمنية مستقبلاً.
والمشكلة التي تبدو واضحة أيضاً أن المرجعيات التي يعتمد عليها الباحثون في أغلب الأحيان مختلفة بدرجة كبيرة، ويظهر ذلك جلياً ليس بين المعنيين بالعلوم الأمنية والمعنيين بالعلوم الاجتماعية فحسب، بل يمتد الأمر إلى مظاهر الاختلاف بين الباحثين في العلوم الاجتماعية أنفسهم، وبين الباحثين في العلوم الأمنية أيضاً، ولا تختلف الرؤى بين هذه الدولة وغيرها، ولا بين أفراد هذا المجتمع أو ذاك، ولا بين الباحثين في الجامعة الواحدة إنما تختلف بين الأفراد أنفسهم في الدولة الواحدة، والمؤسسة الأمنية الواحدة، وحتى الجامعة العلمية الواحدة، إلى درجة أن الرؤى تكاد تكون فردية في تفاصيلها، وإن كانت تنتظم في مدارس واتجاهات ونظريات، وهذه مشكلة تفوق المشكلات السابقة أهمية، لما يترتب عليها من اختلافات كبيرة في الممارسات العملية والتطبيقية التي يقدم عليها متخذي القرارات المعنيين بالمسألة الأمنية وأولئك المعنيين بالمسألة الاجتماعية أيضاً.
وتعد المرجعية الثقافية لكل من المعنيين بالمسألة الأمنية، والمعنيين بالتنمية الاجتماعية العامل الأكثر أهمية في توحيد جهودهم، وتوجيهها نحو غاياتها الأساسية، أو في تفتيتها وبعثرتها، ذلك أن أنماط التفكير عند الفرد، واشكال سلوكه، واستجابته للظروف المحيطة به، محكومة على الأغلب بمرجعيته الثقافية التي أنتجتها خصوصية التجربة التي عاشها.
إن عمليات التواصل الواسعة التي يشهدها العالم المعاصر، ومشاركة الباحثين والمفكرين في المجالات الاجتماعية والأمنية المختلفة في الندوات والمؤتمرات العالمية والإقليمية والمحلية.. وحصول العدد الكبير من أبناء المجتمع العربي على شهادات التخصص العليا من الجامعات المختلفة في العالم أدى، وعلى ماله من أهمية كبيرة في إغناء الرؤى والتصورات العلمية، إلى انتشار مجموعة من النماذج الفكرية والتحليلية المتباينة التي يعتمد عليها كل منهم في معالجته لموضوع العلاقة بين المجتمع والأمن، فالتجربة الشخصية والعلمية والاجتماعية والثقافية التي يعيشها الفرد، تنتج في وعيه نموذجاً فكرياً يحمل خصائصها، وسرعان ما يصبح هذا النموذج المقياس التي يعتمد عليه الفرد في تقويم الأشياء المحيطة به من أبسطها إلى أكثرها تعقيداً، ولما كانت التجارب الإنسانية تتشابه في وجوه، وتختلف في وجوه فإن النماذج الفكرية والمعيارية المنتشرة في وعي الأفراد تتشابه أيضاً في وجوه وتختلف في أخرى، وقد شكل المجتمع الغربي، في كليته وأجزائه، نموذجاً حياً في الوعي العربي وما زال لتقويم الداخل، والعمل على إعادة بنائه وفق معايير النموذج، وظهر ذلك واضحاً على مستوى الفكر والتحليل العلمي للظواهر والمشكلات الاجتماعية والأمنية المختلفة، وعلى مستوى التطبيق من قبل أصحاب القرار والمتنفذين في الدولة والمجتمع.
وعلى الرغم من أن التجارب العلمية والعملية للباحثين العرب والمفكرين في العلوم الاجتماعية والأمنية، كانت غنية بدرجة عالية، وقدمت رؤى فكرية وعلمية متميزة لفهم المشكلات الاجتماعية والأمنية، وكذلك تجارب المعنيين باتخاذ القرار التي ساعدت في كشفهم عن وسائل عمل متطورة لمعالجة مشكلات عديدة يعاني منها المجتمع، وتعاني منها الدولة، غير أن مساوئ تطبيق النماذج عادت مرة أخرى لتظهر من جديد، عبر مشكلات جديدة، وتحديات صعبة، جعلت للتطور المشهود في المجال التقني ضريبة مرتفعة أخذت تمس خصوصيات المجتمع العربي نفسه وتفقده قدراً كبيراً من عوامل قوته التي كانت واحدة من مزاياه في المراحل التقليدية.
إن عمليات التواصل والتفاعل المستمر بين الدول المختلفة، والمجتمعات المتعددة، والتي نمت بقوة منذ بدايات القرن العشرين وحتى الآن، ومازالت تزداد، ومحاولات تطبيق النماذج التحليلية المختلفة على دراسة المشكلات، وتطبيق النماذج العملية لمعالجتها.. كل ذلك كان له التأثير الكبير في تغيير معالم الثقافة العربية، والبنى الاجتماعية المرتبطة بها، فمعايير السلوك، وأنماط الفعل الاجتماعي، واتجاهات الأفراد وتطلعاتهم باتت محكومة بأطر مختلفة تماماً عن تلك التي كانت سائدة في المرحلة التقليدية، غير أن هذا الاختلاف لم يأت على نحو متماثل في مظاهره، إنما جاء متنوعاً بتنوع التجارب التي عاشها أفراد المجتمع أنفسهم، وبالتالي فلم يعد الحكم على أنماط السلوك والبحث عن الأولويات رهن بمعايير الثقافة العربية وقيمها بقدر ما هو مرتبط بالنماذج المنتشرة هنا وهناك، والتي تختلف بصورة كبيرة حتى في البلد الواحد والقرية الواحدة.
والمشكلة الأكثر خطورة أن النماذج المختلفة، وعلى الرغم من تنوعها الشديد فإنها تأتي في أغلب الأحيان، ومن حيث الشكل مرتبطة بالثقافة العربية الإسلامية، ولكنها من حيث المضمون أخذت تشكل نفسها تبعاً لخصوصية التجارب التي أنتجتها، وتكيف مفهوم الثقافة العربية لهذه الخصوصيات أيضاً، حتى بات مفهوم الثقافة العربية الإسلامية نفسه ينطوي على القدر الكبير من التباين بين المفكرين والباحثين إلى حد التناقض في كثير من الأحيان، وبات ما هو نقيض للثقافة العربية في عرف بعضهم، هو من أصالتها في عرف بعضهم الآخر، وما هو أصيل في الثقافة لدى أصحاب نموذج فكري محدد، هو دخيل على الثقافة برؤية أصحاب نموذج فكري آخر، الأمر الذي يعني أنه مع تنوع النماذج الفكرية المرجعية للسلوك والفعل المستمدة من التجارب المتنوعة، يلاحظ غياب نموذج الثقافة العربية الذي يتفق حوله الباحثون العرب والمفكرون في الدول العربية المختلفة، ويمتد غياب النموذج إلى عامة المواطنين الذين باتت استجابتهم لما يحيط بهم من تطورات وتغيرات رهن بما يحملونه من تصورات وأفكار ومعايير قيم وسلوك متنوعة إلى حد التناقض أيضاً.
وعلى قدر غياب النموذج الذي يوحد معايير السلوك وأنماط الفعل بين الأفراد والجماعات على قدر ما تصبح التناقضات الاجتماعية أوسع، وعلى قدر ما تصبح المشكلات الاجتماعية أكبر وبالتالي تصبح مهددات الأمن الاجتماعي أكثر انتشاراً وخطورة، ويضاف إلى ذلك أن طرق الفهم والتحليل والمعالجة والتطبيق تصبح أيضاً موضع خلاف وتناقض بين المعنيين بها، فيظهر ذلك جلياً في تنوع المدارس الفكرية والتحليلية والعقائدية إلى حد التناقض فينقسم أبناء القرية الواحدة إلى مذاهب وتيارات تضعف مواردهم وتشتت قواهم، الأمر الذي يوفر البنية الأساسية للانحراف والتطرف وتهديد الأمن الاجتماعي العام، ويأتي اختلاف الأولويات بين المعنيين بالمسألة الاجتماعية، والمعنيين بالمسألة الأمنية واحداً من مظاهر التباين المشار إليها، والتي تنجم عن تباين النماذج المشكلة من خصوصية التجارب من جهة، ويمكن أن يؤدي التناقض فيها إلى مزيد من المشكلات الاجتماعية والأمنية من جهة ثانية.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق